فصل: الثَّالِثُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.التَّصْدِيرُ:

وَأَمَّا التَّصْدِيرُ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ اللَّفْظَةُ بِعَيْنِهَا تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَتُسَمَّى أَيْضًا رَدَّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزّ: هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ‏.
الْأَوَّلُ‏: أَنْ يُوَافِقَ آخِرَ الْفَاصِلَةِ وَآخِرَ كَلِمَةٍ فِي الصَّدْرِ نَحْوَ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النِّسَاء: 166].
وَالثَّانِي‏: أَنْ يُوَافِقَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ مِنْهُ نَحْوَ: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آلِ عِمْرَانَ: 8]. {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشُّعَرَاء: 168].
الثَّالِثُ‏: أَنْ يُوَافِقَ بَعْضَ كَلِمَاتِهِ نَحْوَ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الْأَنْعَام: 10]. {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الْإِسْرَاء: 21]. {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61]. إِلَى قَوْلِه: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه: 61]. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نُوحٍ: 15].

.التَّوْشِيحُ:

وَأَمَّا التَّوْشِيحُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْقَافِيَةَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصْدِيرِ أَنَّ هَذَا دَلَالَتُهُ مَعْنَوِيَّةٌ وَذَاكَ لَفْظِيَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 33] فَإِنَّ {اصْطَفَى} لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاصِلَةَ {الْعَالَمِينَ} بِاللَّفْظِ لِأَنَّ لَفْظَ {الْعَالَمِينَ} غَيْرُ لَفْظِ اصْطَفَى، وَلَكِنْ بِالْمَعْنَى; لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ اصْطَفَى أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا عَلَى جِنْسِهِ، وَجِنْسُ هَؤُلَاءِ الْمُصْطَفَيْنَ الْعَالَمُونَ.
وَكَقَوْلِه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ} الْآيَةَ [يس: 37]‏، قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: فَإِنَّ مَنْ كَانَ حَافِظًا لِهَذِهِ السُّورَةِ مُتَفَطِّنًا إِلَى أَنَّ مَقَاطِعَ آيِهَا النُّونُ الْمُرْدَفَةُ، وَسَمِعَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ انْسِلَاخَ النَّهَارِ مِنَ اللَّيْلِ، عَلِمَ أَنَّ الْفَاصِلَةَ {مُظْلِمُونَ} لِأَنَّ مَنْ أَسْلَخَ النَّهَارَ عَنْ لَيْلِهِ أَظْلَمَ‏: أَيْ: دَخَلَ فِي الظُّلْمَةِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ تَوْشِيحًا لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا دَلَّ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ نُزِّلَ الْمَعْنَى مَنْزِلَةَ الْوِشَاحِ، وَنُزِّلَ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ مَنْزِلَةَ الْعَاتِقِ وَالْكَشْحِ اللَّذَيْنِ يُحَوَّلُ عَلَيْهِمَا الْوِشَاحُ‏.
وَأَمَّا الْإِيغَالُ فَتَقَدَّمَ فِي نَوْعِ الْإِطْنَابِ‏.

.فصل: في أَقْسَامِ السَّجْعِ:

قَسَّمَ الْبَدِيعِيُّونَ السَّجْعَ وَمِثْلَهُ الْفَوَاصِلَ إِلَى أَقْسَامٍ الْقُرْآنُ: مُطَرَّفٍ، وَمُتَوَازٍ، وَمُرَصَّعٍ، وَمُتَوَازِنٍ، وَمُتَمَاثِلٍ.
فَالْمُطَرَّفُ‏: أَنْ تَخْتَلِفَ الْفَاصِلَتَانِ فِي الْوَزْنِ وَتَتَّفِقَا فِي حُرُوفِ السَّجْعِ نَحْوَ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نُوحٍ: 13، 14].
وَالْمُتَوَازِي‏: أَنْ يَتَّفِقَا وَزْنًا وَتَقْفِيَةً، وَلَمْ يَكُنْ مَا فِي الْأُولَى مُقَابِلًا لِمَا فِي الثَّانِيَةِ فِي الْوَزْنِ وَالتَّقْفِيَةِ نَحْوَ: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الْغَاشِيَة: 13، 14].
وَالْمُتَوَازِنُ‏: أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْوَزْنِ دُونَ التَّقْفِيَةِ نَحْوَ: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الْغَاشِيَة: 15، 16].
وَالْمُرَصَّعُ‏: أَنْ يَتَّفِقَا وَزْنًا وَتَقْفِيَةً، وَيَكُونَ مَا فِي الْأُولَى مُقَابِلًا لِمَا فِي الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ نَحْوَ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الْغَاشِيَة: 25، 26]. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَار: 13، 14].
وَالْمُتَمَاثِلُ‏: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ دُونَ التَّقْفِيَةِ وَتَكُونَ أَفْرَادُ الْأُولَى مُقَابِلَةً لِمَا فِي الثَّانِيَةِ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرَصَّعِ كَالْمُتَوَازِنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَوَازِي نَحْوَ: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الصَّافَّات: 117، 118].
فَالْكِتَابُ وَالصِّرَاطُ يَتَوَازَنَانِ، وَكَذَا الْمُسْتَبِينُ وَالْمُسْتَقِيمُ وَاخْتَلَفَا فِي الْحَرْفِ الْأَخِيرِ‏.

.فصل: في التَّشْرِيعِ وَالِالْتِزَامِ:

بَقِيَ نَوْعَانِ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفَوَاصِلِ الْقُرْآنُ.
أَحَدُهُمَا‏: التَّشْرِيعُ، وَسَمَّاهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: التَّوْءَمَ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَبْنِيَ الشَّاعِرُ بَيْتَهُ عَلَى وَزْنَيْنِ مِنْ أَوْزَانِ الْعَرُوضِ، فَإِذَا أَسْقَطَ مِنْهَا جُزْءًا أَوْ جُزْأَيْنِ صَارَ الْبَاقِي بَيْتًا مِنْ وَزْنٍ آخَرَ‏، ثُمَّ زَعَمَ قَوْمٌ اخْتِصَاصَهُ بِهِ‏.
وَقَالَ آخَرُونَ‏: بَلْ يَكُونُ فِي النَّثْرِ بِأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى سَجْعَتَيْنِ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأُولَى مِنْهُمَا كَانَ الْكَلَامُ تَامًّا مُفِيدًا، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِهِ السَّجْعَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ فِي التَّمَامِ وَالْإِفَادَةِ عَلَى حَالِهِ مَعَ زِيَادَةِ مَعْنَى مَا زَادَ مِنَ اللَّفْظِ‏.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَقَدْ جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مُعْظَمُ سُورَةِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ آيَاتِهَا لَوِ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى أَوَّلِ الْفَاصِلَتَيْنِ دُونَ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 18]. لَكَانَ تَامًّا مُفِيدًا، وَقَدْ كَمُلَ بِالثَّانِيَةِ فَأَفَادَ مَعْنًى زَائِدًا مِنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّوْبِيخِ‏.
قُلْتُ‏: التَّمْثِيلُ غَيْرُ مُطَابِقٍ وَالْأَوْلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِالْآيَاتِ الَّتِي فِي إِثْبَاتِهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ فَاصِلَةً، كَقَوْلِه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاق: 12]. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.
الثَّانِي‏: الِالْتِزَامُ وَيُسَمَّى لُزُومَ مَا لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ أَنْ يُلْتَزَمَ فِي الشِّعْرِ أَوِ النَّثْرِ حَرْفٌ أَوْ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا قَبْلَ الرَّوِيِّ بِشَرْطِ عَدَمِ الْكُلْفَةِ‏.
مِثَالُ الْتِزَامِ حَرْفٍ {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضُّحَى: 9، 10]. الْتَزَمَ الْهَاءَ قَبْلَ الرَّاءِ وَمِثْلُهُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1]. الْآيَاتِ الْتَزَمَ فِيهَا الرَّاءَ قَبْلَ الْكَافِ {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} [التَّكْوِير: 15، 16] الْتَزَمَ فِيهَا النُّونَ الْمُشَدَّدَةَ قَبْلَ السِّينِ {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الِانْشِقَاق: 17، 18].
وَمِثَالُ الْتِزَامِ حَرْفَيْن: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطُّور: 1، 2]. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [الْقَلَم: 2، 3]. {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [الْقِيَامَة: 26، 27].
وَمِثَالُ الْتِزَامِ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الْأَعْرَاف: 201، 202].

.تَنْبِيهَاتٌ‏:

.الْأَوَّلُ:

قَالَ أَهْلُ الْبَدِيع: أَحْسَنُ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مَا تَسَاوَتْ قَرَائِنُهُ نَحْوَ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الْوَاقِعَة: 28- 30]. وَيَلِيهِ مَا طَالَتْ قَرِينَتُهُ الثَّانِيَةُ نَحْوَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النَّجْم: 1، 2]. أَوِ الثَّالِثَةُ نَحْوَ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} الْآيَةَ [الْحَاقَّة: 30- 32]‏.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِير: الْأَحْسَنُ فِي الثَّانِيَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَإِلَّا فَأَطْوَلُ قَلِيلًا‏.
وَفِي الثَّالِثَةِ أَنْ تَكُونَ أَطْوَلَ‏.
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ‏: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثَّانِيَةُ أَقْصَرَ مِنَ الْأُولَى.

.الثَّانِي:

قَالُوا أَحْسَنُ السَّجْعِ مَا كَانَ قَصِيرًا لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْمُنْشِئِ، وَأَقَلُّهُ كَلِمَتَانِ نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [الْمُدَّثِّر: 1، 2]. الْآيَاتِ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [الْمُرْسَلَات: 1]. الْآيَاتِ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذَّارِيَات: 1]. الْآيَاتِ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [الْعَادِيَات: 1] الْآيَاتِ.

.الثَّالِثُ:

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيم: لَا تَحْسُنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَوَاصِلِ لِمُجَرَّدِهَا إِلَّا مَعَ بَقَاءِ الْمَعَانِي عَلَى سَرْدِهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُسْنُ النَّظْمِ وَالْتِآمُهُ، فَأَمَّا أَنْ تُهْمَلَ الْمَعَانِي وَيُهْتَمَّ بِتَحْسِينِ اللَّفْظِ وَحْدَهُ، غَيْرَ مَنْظُورٍ فِيهِ إِلَى مُؤَدَّاهُ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْبَلَاغَةِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [الْبَقَرَة: 4]. لَيْسَ لِمُجَرَّدِ الْفَاصِلَةِ بَلْ لِرِعَايَةِ الِاخْتِصَاصِ‏.

.الرَّابِعُ:

مَبْنَى الْفَوَاصِلِ عَلَى الْوَقْفِ، وَلِهَذَا سَاغَ مُقَابَلَةُ الْمَرْفُوعِ بِالْمَجْرُورِ وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِه: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} مَعَ قوله: {عَذَابٌ وَاصِبٌ} وَ{شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّات: 9- 11].
وَقَوْلُهُ: {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} مَعَ قوله: {قَدْ قُدِرَ}، {وَدُسُرٍ}، {مُسْتَمِرٌّ} [الْقَمَر: 11، 12، 13، 19].
وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} مَعَ قوله: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرَّعْد: 11، 12].

.الْخَامِسُ:

كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ خَتْمُ الْفَوَاصِلِ بِحُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ وَإِلْحَاقُ النُّونِ، وَحِكْمَتُهُ وُجُودُ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّطْرِيبِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمْ إِذَا تَرَنَّمُوا يُلْحِقُونَ الْأَلِفَ وَالْيَاءَ وَالنُّونَ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا مَدَّ الصَّوْتَ وَيَتْرُكُونَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَرَنَّمُوا، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَسْهَلِ مَوْقِفٍ وَأَعْذَبِ مَقْطَعٍ‏.

.السَّادِسُ:

حُرُوفُ الْفَوَاصِلِ إِمَّا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِمَّا مُتَقَارِبَةٌ الْقُرْآنُ.
فَالْأُولَى: مِثْلُ: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطُّور: 1- 4].
وَالثَّانِي مِثْلُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَة: 3، 4]. {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 1، 2].
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ‏: وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَلْ تَنْحَصِرُ فِي الْمُتَمَاثِلَةِ وَالْمُتَقَارِبَةِ‏.
قَالَ‏: وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدِّ الْفَاتِحَةِ سَبْعَ آيَاتٍ مَعَ الْبَسْمَلَةِ، وَجَعْلِ {صِرَاطَ الَّذِينَ} إِلَى آخِرِهَا آيَةً فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الْآيَةَ السَّادِسَةَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَا يُشَابِهُ فَوَاصِلَ سَائِرِ آيَاتِ السُّورَةِ، لَا بِالْمُمَاثَلَةِ وَلَا بِالْمُقَارَبَةِ، وَرِعَايَةُ التَّشَابُهِ فِي الْفَوَاصِلِ لَازِمَةٌ‏.

.السَّابِعُ:

كَثُرَ فِي الْفَوَاصِلِ التَّضْمِينُ وَالْإِيطَاءُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَيْبَيْنِ فِي النَّثْرِ وَإِنْ كَانَا عَيْبَيْنِ فِي النَّظْمِ، فَالتَّضْمِينُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الْفَاصِلَةِ مُتَعَلِّقًا بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} [الصَّافَّات: 137، 138].
وَالْإِيطَاءُ تَكَرُّرُ الْفَاصِلَةِ بِلَفْظِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِسْرَاءِ: {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} وَخَتَمَ بِذَلِكَ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا‏.

.النَّوْعُ السِّتُّونَ: فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ:

أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ الْخَوَاطِرَ السَّوَانِحَ فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ وَأَنَا أُلَخِّصُ هُنَا مَا ذَكَرَهُ مَعَ زَوَائِدَ مِنْ غَيْرِه:
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَتَحَ سُوَرَ الْقُرْآنِ بِعَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ عَنْهَا‏.
الْأَوَّلُ‏: الثَّنَاءُ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَالثَّنَاءُ قِسْمَان: إِثْبَاتٌ لِصِفَاتِ الْمَدْحِ، وَنَفْيٌ وَتَنْزِيهٌ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ‏. فَالْأَوَّلُ‏: التَّحْمِيدُ فِي خَمْسِ سُوَرٍ، وَتَبَارَكَ فِي سُورَتَيْنِ‏. وَالثَّانِي‏: التَّسْبِيحُ فِي سَبْعٍ سُوَرٍ‏.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فِي مُتَشَابِهِ الْقُرْآن: التَّسْبِيحُ كَلِمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهَا، فَبَدَأَ بِالْمَصْدَرِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، ثُمَّ بِالْمَاضِي فِي الْحَدِيدِ وَالْحَشْرِ، لِأَنَّهُ أَسْبَقُ الزَّمَانَيْنِ ثُمَّ بِالْمُضَارِعِ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ، ثُمَّ بِالْأَمْرِ فِي الْأَعْلَى اسْتِيعَابًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِهَا‏.
الثَّانِي‏: حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْعَبًا فِي نَوْعِ الْمُتَشَابِهِ، وَيَأْتِي الْإِلْمَامُ بِمُنَاسَبَاتِهَا فِي نَوْعِ الْمُنَاسَبَاتِ‏.
الثَّالِثُ‏: النِّدَاءُ فِي عَشْرِ سُوَرٍ‏: خَمْسٌ بِنِدَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏: الْأَحْزَابُ وَالطَّلَاقُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ، وَخَمْسٌ بِنِدَاءِ الْأُمَّة: النِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْحَجُّ، وَالْحُجُرَاتُ، وَالْمُمْتَحَنَةُ.
الرَّابِعُ‏: الْجُمَلُ الْخَبَرِيَّةُ نَحْوَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الْأَنْفَالِ]. {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ]. {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النَّحْلِ]. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ]. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ]. {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النُّورِ]. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، {الَّذِينَ كَفَرُوا} [مُحَمَّدٍ]. {إِنَّا فَتَحْنَا} [الْفَتْحِ]. {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [الْقَمَرِ]. {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ} [الرَّحْمَنِ]. {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [الْمُجَادَلَةِ]. {الْحَاقَّةُ}، {سَأَلَ سَائِلٌ} [الْمَعَارِجِ]. {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نُوحٍ]. {لَا أُقْسِمُ} فِي مَوْضِعَيْنِ [الْقِيَامَةِ، وَالْبَلَدِ]. {عَبَسَ}، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [الْقَدْرِ]. {لَمْ يَكُنْ}، {الْقَارِعَةِ}، {أَلْهَاكُمُ} [التَّكَاثُرِ]. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} [الْكَوْثَرِ]. فَتِلْكَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً‏.
الْخَامِسُ‏: الْقَسَمُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً.
سُورَةٌ أَقْسَمَ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ وَهِيَ {وَالصَّافَّاتِ}.
وَسُورَتَانِ بِالْأَفْلَاك: الْبُرُوجُ وَالطَّارِقُ.
وَسِتُّ سُوَرٍ بِلَوَازِمِهَا‏: فَـ: {النَّجْمُ} قَسَمٌ بِالثُّرَيَّا، {وَالْفَجْرُ} بِمَبْدَأِ النَّهَارِ، {وَالشَّمْسُ} بِآيَةِ النَّهَارِ،{وَاللَّيْلُ} بِشَطْرِ الزَّمَانِ، {وَالضُّحَى} بِشَطْرِ النَّهَارِ، {وَالْعَصْرِ} بِالشَّطْرِ الْآخَرِ، أَوْ بِجُمْلَةِ الزَّمَانِ.
وَسُورَتَانِ بِالْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْعَنَاصِرِ، {وَالذَّارِيَات} {وَالْمُرْسَلَاتِ}، وَسُورَةٌ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْهَا أَيْضًا، وَهِيَ {والطُّورُ}، وَسُورَةٌ بِالنَّبَاتِ، وَهِيَ {وَالتِّينِ}، وَسُورَةٌ بِالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ، وَهِيَ {وَالنَّازِعَاتِ}، وَسُورَةٌ بِالْبَهِيمِ وَهِيَ {وَالْعَادِيَاتِ‏}.
السَّادِسُ‏: الشَّرْطُ فِي سَبْعِ سُوَرٍ‏: الْوَاقِعَةُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّكْوِيرُ وَالِانْفِطَارُ وَالِانْشِقَاقُ وَالزَّلْزَلَةُ وَالنَّصْرُ‏.
السَّابِعُ‏: الْأَمْرُ فِي سِتٍّ سُوَرٍ‏: {قُلْ أُوحِيَ}، {اقْرَأْ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {قُلْ أَعُوذُ} الْمُعَوِّذَتَيْنِ‏.
الثَّامِنُ‏: الِاسْتِفْهَامُ فِي سِتِّ سُوَرٍ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، {هَلْ أَتَى}، {هَلْ أَتَاكَ}، {أَلَمْ نَشْرَحْ}، {أَلَمْ تَرَ}، {أَرَأَيْتَ}.
التَّاسِعُ‏: الدُّعَاءُ فِي ثَلَاثٍ‏: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}، {تَبَّتْ}.
الْعَاشِرُ‏: التَّعْلِيلُ فِي {تَبَّتْ}.
هَكَذَا جَمَعَ أَبُو شَامَةَ قَالَ‏: وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الدُّعَاءِ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْخَبَرِ، وَكَذَا الثَّنَاءُ كُلُّهُ خَبَرٌ إِلَّا سَبِّحْ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ الْأَمْرِ، وَسُبْحَانَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ.
ثُمَّ نَظَمَ ذَلِكَ فِي بَيْتَيْنِ فَقَالَ:
أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ سُبْحَانَهُ بِثُبُو ** تِ الْحَمْدِ وَالسَّلْبِ لَمَّا اسْتَفْتَحَ السُّوَرَا

وَالْأَمْرِ شَرْطِ النِّدَا التَّعْلِيلِ وَالْقَسَمِ الدُّ ** عَا حُرُوفِ التَّهَجِّي اسْتَفْهِمِ الْخَبَرَا

وَقَالَ أَهْلُ الْبَيَان: مِنَ الْبَلَاغَةِ حُسْنُ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَتَأَنَّقَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ فَإِنْ كَانَ مُحَرَّرًا أَقْبَلَ السَّامِعُ عَلَى الْكَلَامِ وَوَعَاهُ، وَإِلَّا أَعْرَضَ عَنْهُ لَوْ كَانَ الْبَاقِي فِي نِهَايَةِ الْحُسْنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْتَى فِيهِ بِأَعْذَبِ اللَّفْظِ وَأَجْزَلِهِ وَأَرَقِّهِ وَأَسْلَسِهِ، وَأَحْسَنِهِ نَظْمًا وَسَبْكًا، وَأَصَحِّهِ مَعْنًى، وَأَوْضَحِهِ وَأَخْلَاهُ مِنَ التَّعْقِيدِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمُلْبِسِ، أَوِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ‏.
قَالُوا‏: وَقَدْ أَتَتْ جَمِيعُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَبْلَغِهَا وَأَكْمَلِهَا، كَالتَّحْمِيدَاتِ وَحُرُوفِ الْهِجَاءِ وَالنِّدَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.
وَمِنَ الِابْتِدَاءِ الْحَسَنِ نَوْعٌ أَخَصُّ مِنْهُ يُسَمَّى: بَرَاعَةَ الِاسْتِهْلَالِ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ، وَيُشِيرُ إِلَى مَا سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ، وَالْعَلَمُ الْأَسْنَى فِي ذَلِكَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ الَّتِي هِيَ مَطْلَعُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِهِ، كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَان: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ، أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِائَةً وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أَوْدَعَ عُلُومَهَا أَرْبَعَةً مِنْهَا‏: التَّوْرَاةَ، وَالْإِنْجِيلَ، وَالزَّبُورَ، وَالْفُرْقَانَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ الْقُرْآنَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلَ، ثُمَّ أَوْدَعَ عُلُومَ الْمُفَصَّلِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، فَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَهَا كَانَ كَمَنْ عَلِمَ تَفْسِيرَ جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَقَدْ وُجِّهَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْعُلُومَ الَّتِي احْتَوَى عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَقَامَتْ بِهَا الْأَدْيَانُ أَرْبَعَةٌ‏:
عِلْمُ الْأُصُولِ وَمَدَارُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَمَعْرِفَةُ النُّبُوَّاتِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وَمَعْرِفَةُ الْمَعَادِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.
وَعِلْمُ الْعِبَادَات: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.
وَعِلْمُ السُّلُوك: وَهُوَ حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالِانْقِيَادِ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِـ: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
وَعِلْمُ الْقَصَص: وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ لِيَعْلَمَ الْمُطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ سَعَادَةَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَشَقَاوَةَ مَنْ عَصَاهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
فَنَبَّهَ فِي الْفَاتِحَةِ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا هُوَ الْغَايَةُ فِي بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْحَسَنَةِ وَالْمَقَاطِعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ وَأَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ‏.
وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةٍ اقْرَأْ فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَظِيرِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةُ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ، لِكَوْنِهَا أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فَإِنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْبَدَاءَةَ فِيهَا بِاسْمِ اللَّهِ وَفِيهِ الْإِشَارَةُ عَلَى عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ وَإِثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ، وَفِي هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أُصُولِ الدِّينِ وَفِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْبَارِ مِنْ قوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَق: 5]. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا جَدِيرَةٌ أَنْ تُسَمَّى عُنْوَانَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ عُنْوَانَ الْكِتَابِ يَجْمَعُ مَقَاصِدَهُ بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ فِي أَوَّلِهِ‏.